Skip to main content

MEMBACA PEMIKIRAN DAWUD UGLU

قراءة في فكر داود أوغلو
علي جلال معوض*
.....

يعتبر وزير الخارجية التركي الحالي أحمد داود أوغلو نموذجا للمفكر الذي أتيحت له فرصة تطبيق أفكاره في الواقع العملي، وذلك بالنظر إلي جمعه بانسجام بين دوره كأحد رجال العلم والتنظير الفكري، والتأصيل الفلسفي بحكم تخصصه الأساسي كمفكر أكاديمي متخصص في الفلسفة السياسية والعلاقات الدولية من جهة، بالإضافة إلي دوره كرجل السياسة والتنفيذ العملي بحكم شغله العديد من المناصب السياسية منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة في نوفمبر 2002 من جهة ثانية، حيث عمل منذئذ ككبير مستشاري رئيس الوزراء للشئون الخارجية، وذلك قبل اختياره لشغل منصب وزير خارجية تركيا في الأول من مايو عام 9002.

في هذا الإطار، يتم التركيز علي أفكار أوغلو باعتباره أحد المهندسين الرئيسيين - إن لم يكن المهندس الرئيسي - لرؤية العدالة والتنمية في مجال السياسة الخارجية، الأمر الذي يستلزم قراءة بعض أفكار البروفيسور أوغلو المتعلقة بنظرته للنظام العالمي والسياسة الدولية، والمباديء التي يفترض أن توجه السياسة الخارجية التركية في منطقة الشرق الأوسط تحديدا، وهو ما سيتم عبر اقتراب غير مباشر يقوم علي مراجعة وتصنيف أهم اتجاهات تحليل أفكار أوغلو في مجال السياسة الخارجية. ويمكن أن يتم ذلك عبر ثلاثة مداخل علي الأقل لقراءة أفكار أوغلو، وهي المدخل الرسمي، ومدخل المشروع الفكري المتكامل، ومدخل المراحل أو المشاريع الفكرية المتعددة.

أولا- الأفكار 'الرسمية' لأوغلو:

يركز هذا المدخل علي أفكار أوغلو بعد تحوله إلي جزء أساسي من النخبة الرسمية للسياسة الخارجية التركية، وذلك منذ توليه منصب مستشار رئيس الوزراء للشئون الخارجية في عهد حكومة العدالة الأولي. أحد الافتراضات الأساسية الكامنة خلف هذا المدخل هو تجزئة خبرة أوغلو والتركيز علي المرحلة الأخيرة 'الرسمية' منها. ورغم أن هذا المدخل قد يتضمن إشارات إلي مفاهيم ومسميات نظريات سابقة لأوغلو، مثل 'العمق الاستراتيجي' ومكانة تركيا كدولة مركزية، إلا أنه يتناول هذه المفاهيم بشكل عرضي سريع قائم علي التفسيرات الدبلوماسية الموجزة التي يقدمها أوغلو كمسئول سياسي لمثل هذه المفاهيم، دون اهتمام كاف بالعودة للتحليلات التفصيلية المعمقة لهذه المفاهيم في كتابات أوغلو ذاتها(1).

بؤرة تركيز هذا المدخل هي رؤية أوغلو لأهداف الاستراتيجية التركية الحالية وغاياتها بعد وصول حزب العدالة للسلطة، وهو ما عرضه أوغلو في أكثر من مناسبة، محددا إياها في الموازنة بين الحرية والأمن (لاسيما في الشق الداخلي من الاستراتيجية التركية، وذلك لتجنب تحول تركيا إلي دولة استبدادية غير ديمقراطية، أو دولة فوضوية ينعدم فيها الأمن)، والسعي لخفض المشكلات مع دول الجوار إلي نقطة الصفر (أي مع اليونان وسوريا وإيران، بالإضافة إلي قبرص وأرمينيا وغيرهما) مع الاهتمام بمناطق الأزمات خارج دائرة الجوار المباشر لتركيا (أي تنشيط الدور التركي في الأزمات في لبنان، والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وأزمات القوقاز، والخلافات العربية البينية، وغيرها)، وتعزيز علاقات تركيا مع شركائها العالميين علي نحو أكثر توازنا في إطار سياسة خارجية متعددة الأبعاد (أي العلاقات المتكاملة مع القوي العالمية المختلفة، ممثلة في الولايات المتحدة، وأوروبا، وروسيا، بالإضافة إلي القوي الأخري في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، وتفعيل الدور التركي في المنظمات الدولية والإقليمية)، وتعزيز مكانة تركيا كفاعل عالمي يمتلك مصادر متعددة 'للقوة الناعمة' (وهو ما يأتي كمحصلة لجميع ما سبق)(2).

وبالنسبة للسياسة التركية إزاء الشرق الأوسط تحديدا، بقضاياه ودوله وفاعليه، يشير أوغلو إلي وجود أربعة مبادئ أساسية تشكل الرؤية التركية تجاهه، بالإضافة إلي المباديء العامة السابقة:



ولها: الأمن للجميع، أي ضرورة تحقيق الأمن المشترك للمنطقة ككل بجميع أطرافها وفاعليها، بحيث يساوي الأمن الحقيقي للفلسطينيين أمن الإسرائيليين، وأمن الشيعة العراقيين يجب أن يتساوي مع أمن السنة العراقيين، وأمن المسيحي اللبناني ينبغي أن يساوي أمن الشيعي أو السني اللبناني، وأمن العرب يجب أن يساوي أمن الأتراك أو الأكراد أو أي طرف آخر.

وثانيها: تغليب الحوار السياسي والآليات الدبلوماسية والسلمية في حل الخلافات ومعالجة أزمات المنطقة، في إطار البحث عن حلول تحقق المكاسب للأطراف المختلفة

'win-win solutionsس بدلا من الاكتفاء بسياسة الحفاظ علي الوضع القائم أو الاقتناع بأن 'اللا حل هو الحل'، وهو ما يقتضي فتح قنوات للتواصل مع مختلف الأطراف، وتجنب سياسات الحصار والعزل والاحتواء، وتشجيع المبادرات وسياسة السلام الاستباقية للحيلولة دون اتساع نطاق الأزمات في المنطقة.

وثالثها: تعزيز الاعتماد المتبادل بين اقتصادات المنطقة، وصولا إلي التكامل والاندماج بينها، بما يحقق الاستقرار في المنطقة، حيث لا يمكن تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط إذا استمرت سيطرة الطابع الانعزالي علي علاقات اقتصادات المنطقة ببعضها البعض.

ورابعها: التعايش الثقافي، ويقصد به أساسا الحفاظ علي وحدة الكيانات القائمة، وطابعها المتعدد في إطار تأكيد التسامح الثقافي والتعددية، وتجنب إثارة النعرات وقضايا التمايز الطائفية والعرقية علي نحو صراعي(3).

وتجدر الإشارة إلي وجود تغييرات يدخلها أوغلو بين الحين والآخر في التعبير عن هذه المباديء والأفكار، سواء في إطار إعادة تنسيقها وترتيبها، أو بغرض التعبير عن الانتقال من مرحلة إلي مرحلة أخري، وهو ما ظهر مثلا في تأكيد أوغلو منذ نهايات 2008 انتهاء تركيا من مرحلة 'تصفير المشكلات' مع بعض دول الجوار إلي مرحلة 'تعظيم العلاقات' بما يحقق أكبر مكاسب للطرفين. كما أن ثمة مباديء أخري تتم إضافتها أو تسليط الضوء عليها كمحاولة للاستجابة لتحديات الواقع وضغوطه التي قد تفرض علي تركيا سياسات تبدو مخالفة للمباديء المعلنة في سياستها الخارجية، وهو ما برزت الحاجة إليه مثلا في إطار الدفاع عن حق تركيا في استخدام القوة العسكرية لمواجهة تهديدات حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. في هذا الإطار، لجأ أوغلو إلي التشديد علي مبدأ التوظيف 'الذكي' لعناصر القوة التركية، وهو ما يمثل مخرجا يسمح لتركيا بالجمع بين قدراتها الصلبة والرخوة جنبا إلي جنب، وتبرير التحول من إحداهما إلي الأخري أو الجمع بينهما معا(4).

وعلي الرغم من مزايا هذا المدخل الرسمي، المتمثلة بالأساس في تركيز بؤرة تحليل أفكار أوغلو، وتجنب الخوض في جذورها وأبعادها وتفاصيلها المختلفة: التاريخية، والفلسفية، والدينية، والجغرافية، والسياسية، والاستراتيجية، إلا أن هذه المزية ذاتها تمثل أحد عناصر انتقاد هذا المدخل بالنظر إلي أن إغفال هذه الجذور والأبعاد يؤدي إلي نتيجتين سلبيتين أساسيتين:

النتيجة الأولي هي التقليل من أهمية أفكار أوغلو وحكومة العدالة في مجال السياسة الخارجية بسبب الطابع الدبلوماسي الغالب علي صياغة هذه المباديء، وعدم اختلافها فعليا عن برامج العمل الرسمية المعلنة من قبل الحكومات التركية المختلفة طوال التسعينيات. ولعل ذلك ما دفع أحد الدبلوماسيين الأتراك إلي وصف رؤية أوغلو في مجال السياسة الخارجية بأنها مجرد 'خمر قديم في أوان جديدة'، حيث يملك الحزب وأوغلو القدرة علي 'إعادة تغليف مباديء السياسة الخارجية بحيث تبدو كما لو كانت جديدة'، في حين أنها لا تعدو أن تكون إعادة لتأكيد ضرورة التزام تركيا سياسة خارجية نشيطة في دوائرها الإقليمية المختلفة، والدعوة إلي إحياء وتوليف مباديء وأدوار كان معبرا عنها في الحوار السياسي التركي(5).

أما النتيجة السلبية الثانية لهذا المدخل، فهي احتمال إغفال عناصر أساسية من فكر أوغلو، تفوق في أهميتها تلك المعلنة رسميا، فضلا عن إغفال رصد التطورات والتغيرات في فكر أوغلو ذاته، مقارنة بالمراحل السابقة. ويحاول المدخلان التاليان التغلب علي هذه الانتقادات من خلال تسليط الضوء -بشكل أو آخر- علي فكر أوغلو في المراحل السابقة علي توليه مناصبه الرسمية، بما يكشف عن أبعاد جديدة ودرجة أعلي من الثراء والتركيب.

ثانيا- المشروع الفكري الحضاري :

يقوم المدخل الثاني علي التعامل مع كتابات أوغلو كحلقات أو أجزاء متداخلة ومترابطة من مشروع فكري متكامل يجمع بين قراءة التاريخ وتحليل الأوضاع الراهنة من منظور حضاري يجمع بين الأبعاد الفكرية الفلسفية والأبعاد الواقعية المادية، واستشراف المسارات المستقبلية لهذه الأوضاع، وتقديم توصيات أو برنامج للحركة لتقويم هذه المسارات. وتخاطب هذه الأبعاد التحليلية والتنبئية والتقويمية ثلاث دوائر أساسية هي: العالم الإسلامي، والغرب (ممثلا بالأساس في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي)، وتركيا. ويلاحظ حرص هذا المدخل علي إبراز الهوية الإسلامية، باعتبارها المكون الأساسي الأكثر أهمية للذات التركية، واعتبار ذلك عنصرا حاكما في رؤية أوغلو.

ويظهر هذا المدخل بشكل صريح أو ضمني في العديد من التحليلات التي تستخدم مفهوم 'العثمانية الجديدة' في وصف رؤية أوغلو والسياسة الخارجية لحكومة العدالة والتنمية، حيث تتجاوز أهداف السياسة التركية، وفقا لهذه التحليلات، تحقيق مصالح تركيا كدولة، كي تمتد لمحاولة إحياء العالم الإسلامي أو بعض أجزائه من خلال دور محوري لتركيا كأحد المراكز الأساسية للحضارة الإسلامية. ولعل أحد النماذج الأكثر تبلورا في التعبير عن هذا المدخل هو ذلك الذي يقدمه الدكتور إبراهيم البيومي غانم في تحليله لفكر أوغلو في مجال العلاقات الدولية، باعتباره نتاج ثلاث نظريات متماسكة، يجمعها 'إدراك أوغلو لذاته الحضارية/الإسلامية' علي حد تعبير غانم، وهي: نظرية التحول الحضاري، ونظرية العمق الاستراتيجي، ونظرية العثمانية الجديدة(6).

وفقا لهذا التحليل، تمثل نظرية التحول الحضاري المستوي أو الإطار الأوسع الذي حدد فيه أوغلو رؤيته للنظام العالمي وعلاقاته، مع تحليل وضع العالم الإسلامي وأزماته والعناصر الكامنة لقوته. بينما تمثل نظرية العمق الاستراتيجي الإطار أو المستوي الثاني الذي يركز بشكل تفصيلي علي تقديم رؤية لمكانة تركيا في العالم، وذلك استكمالا لتناول تركيا بشكل جزئي غير مفصل في المستوي الأول، باعتبارها جزءا من العالم الإسلامي. وإذا كانت نظرية العمق الاستراتيجي تحدد الخطوط العريضة لمكانة تركيا وما ينبغي أن تلتزمه في سياستها الخارجية تجاه الدوائر المختلفة، فإن نظرية 'العثمانية الجديدة' تمثل مجموعة مباديء أكثر وضوحا، وتحديدا في إدارة شئون السياسة الخارجية التركية. وبالنظر إلي أنه سيتم التعرض للعديد من عناصر نظرية العمق الاستراتيجي في المدخل الثالث، فإن التركيز سينصب في هذا الجزء علي إبراز نظرية التحول الحضاري، لاسيما أنها تمثل فعليا بؤرة تركيز هذا المدخل في صوره الأكثر تعمقا.

في كتابه التحول الحضاري والعالم الإسلامي، يطرح أوغلو تفسيرا حضاريا لتطورات العلاقات الدولية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث يرفض مقولات نهاية التاريخ لفوكوياما التي تعتبر هذه المرحلة تجسيدا لنهاية التطور التاريخي بانتصار الرأسمالية/الليبرالية، وإنما يري أوغلو هذه المرحلة تعبيرا عن تحول حضاري واسع المدي، يتراجع بموجبه تدريجيا- 'المركز الحضاري الأطلسي/الأمريكي'، لصالح مراكز حضارية أخري محتملة، هي: المركز الأوروبي، و'المركز الباسيفيكي' بقيادة الصين والهند واليابان. ويقدم أوغلو تحليلا موضوعيا لمقومات القوة والضعف لكل من هذه المراكز الحضارية البديلة، ويبين وجود العديد من العقبات والقيود التي تواجه كلا منها، سواء نتيجة عوامل ذاتية داخلية، أو بسبب جهود المحور الحضاري/الأمريكي للاحتفاظ بتفوقه بشتي الوسائل، بما في ذلك التلاعب بالأسس الداخلية لهذه المراكز الحضارية البديلة له.

ورغم إدراك أوغلو وعرضه للأزمات الفكرية والاقتصادية والسياسية التي يواجهها العالم الإسلامي، إلا أنه يرصد بعض عناصر القوة الكامنة التي من شأنها زيادة جاذبية الرؤية الإسلامية أو المنظور الإسلامي، ونموذجه كبديل نظري أكثر قدرة علي معالجة أزمات النظام العالمي. كما يطرح أوغلو بعض الأبعاد والتطورات الواقعية الإيجابية التي تؤذن باحتمالات تفعيل برنامج سياسي لإنشاء مركز حضاري إسلامي علي أرض الواقع، وهو ما يرتبط بحركات الإحياء الإسلامي، وانكشاف إفلاس وعجز النخب التغريبية المحتكرة للسلطة السياسية في الدول الإسلامية، وعجزها عن تحقيق ما وعدت به من إنجازات سياسية واقتصادية، فضلا عن تجلي انحياز الغرب ومعاييره المزدوجة في التعامل مع العالم الإسلامي وقضاياه ودوله بما يعزز الوعي الإسلامي، وذلك في إطار ما يسميه أوغلو 'مرحلة تجدد الإدراك الذاتي الإسلامي'، وتخلصه تدريجيا من عقدة الدونية التي سيطرت علي الذهنية المسلمة إبان الحقبة الاستعمارية(7).

ولا يكتفي أوغلو برصد وتحليل وتفسير مشكلات العالم الإسلامي وما يشهده من تطورت إيجابية، وإنما يتقدم ببعض المقترحات التي تشكل في حد ذاتها برنامج عمل موجزا لمعالجة هذه المشكلات الفكرية والاقتصادية والسياسية في أبعادها الداخلية والخارجية. وتتسم بعض هذه المقترحات بطابع شديد من العمومية، وعدم وضوح آليات التنفيذ (مثل دعوته لمعالجة الأزمة الاقتصادية للأمة الإسلامية بالبدء في تحقيق اندماج اقتصادي إقليمي في العالم الإسلامي، ودعوته لمعالجة مشكلة الشرعية السياسية للنظم العربية والإسلامية من خلال ترسيخ قواعد نظرية وعملية تتسم بالاستقرار والمشروعية، وتكون متجذرة في التجربة التاريخية الثقافية للمجتمعات الإسلامية). إلا أن ثمة مقترحات أخري تتسم بطابع أكثر تحديدا، مثل دعوته لإعادة هيكلة منظمة المؤتمر الإسلامي علي نحو يمكنها من أداء دورها بكفاءة وفاعلية، ومناداته بوضع اتفاقية للأمن والتعاون بين أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي علي غرار اتفاقية هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي(8).

ولا يخلو تحليل أوغلو في كتابه 'التحول الحضاري' من إشارات إلي أوضاع تركيا. إلا أن تناول الحالة التركية يظل جزئيا، وخاليا كذلك من توجيهات تفصيلية لما ينبغي أن تكون عليه سياسات تركيا الداخلية والخارجية بشكل متمايز عن التحليل المذكور للعالم الإسلامي ككل، الذي تشكل تركيا جزءا أساسيا منه. ويركز أوغلو علي انتقاد النخبة العلمانية ذات النزعة الفكرة التغريبية، وإخفاقاتها السياسية والاقتصادية علي المستويين الداخلي والخارجي، مع رصد بعض التطورات الإيجابية الممثلة في 'خروج تركيا منذ منتصف الثمانينيات من سياسة الانكفاء علي الذات، والعزلة عن محيطها الاستراتيجي الإسلامي، والقبول المتنامي لهذا التوجه في السياسة الداخلية التركية'، وهو ما يمثل وفقا لغانم 'أول خيط ينسج به (أوغلو) نظريته الكبري الثانية'، وهي نظرية 'العمق الاستراتيجي'(9).

فنظرية العمق الاستراتيجي تمثل المستوي الثاني الذي ينقل بؤرة التحليل إلي مكانة تركيا ودورها في إطار هذه الرؤية للنظام العالمي. وتنطلق نظرية العمق الاستراتيجي من رفض للتوصيفات الغربية لتركيا كدولة هامشية أو طرفية في النظام العالمي، وانتقاد السياسات الخارجية والأمنية للنخب التركية منذ إنشاء الجمهورية التي أدت إلي انعزال تركيا وحرمانها من العديد من دوائر حركتها، وقلصت مكانتها إلي دولة 'جناح'، باعتبارها جزءا من الجناح الجنوب شرقي لحلف شمال الأطلسي خلال الحرب الباردة، وصولا إلي وصفها بالدولة 'الممزقة أو الطرفية' من قبل هنتنجتون، باعتبارها علي أطراف أوروبا أو الغرب من جهة، وعلي أطراف العالم الإسلامي أو الشرق من جهة أخري. ويدعو أوغلو إلي مراجعة تعريف تركيا لهويتها وسياساتها، انطلاقا من تأكيد مكانتها كدولة مركزية ذات عمق استراتيجي بحكم الواقع الجغرافي والتاريخي والفكري الثقافي، بما يشكل فرصة كي تقوم تركيا بدور فعال، ليس فقط في النظام الإقليمي المحيط بها، وإنما في النظام العالمي أيضا.

ووفقا للمدخل الحضاري المتكامل في تحليل فكر أوغلو، فإن المباديء والمفاهيم التي أخذ أوغلو يطرحها، بعد وصول العدالة والتنمية للسلطة، مثل 'الموازنة بين الحرية والأمن'، و'السياسة الخارجية متعددة الأبعاد'، و'تصفير المشكلات مع دول الجوار'، وغيرها من المباديء السابق تناولها في إطار المدخل الأول، هي فروع أو نظريات جزئية مبنية عن نظريتي التحول الحضاري والعمق الاستراتيجي، بحيث تكون 'أقل اتساعا، وأكثر عملياتية في شئون السياسة الخارجية التركية'. فهذه المباديء والسياسات الناجمة عنها هي تجسيد لتصالح تركيا مع ذاتها الحضارية الإسلامية بسلام، واعتزازها بماضيها 'العثماني' متعدد الثقافات والأعراق، و'استبطان حس العظمة والكبرياء العثمانية والثقة بالنفس عند التصرف في السياسة الخارجية'، والموازنة في علاقات تركيا وانفتاحها علي كل من الشرق والغرب، وهو ما يشكل مرتكزات نظرية 'العثمانية الجديدة' لدي غانم وآخرين(10).

ويوحي الطابع المتكامل والمتماسك لهذه النظريات -وفقا لهذا المدخل- بأن نظريتي العمق الاستراتيجي والعثمانية الجديدة هما بمثابة جزء من برنامج العمل لتحقيق الأهداف والغايات المنشودة التي يطرحها أوغلو في نظرية التحول الحضاري، وتقديم مثال أو نموذج تركي تقتدي به الدول الإسلامية الأخري من أجل تحقيق هذه الغايات. وتتمثل هذه الغايات في معالجة الأزمة الحضارية للنظام العالمي من خلال المسار القائم علي بناء مركز حضاري إسلامي جديد، يشكل 'تطويرا لنظام عالمي بديل وليس محاولة لتطوير نظام الدولة القومية'، ويقوم علي 'بث الحيوية في أوصال المفاهيم التقليدية، مثل 'الأخوة العالمية بين أبناء الأمة'، و'دار الإسلام' كمفهوم لنظام عالمي، و'الخلافة' كمؤسسة سياسية لذلك النظام العالمي دون التمسك بالضرورة بالأنماط التقليدية لتلك المؤسسات'، وذلك علي النحو الوارد في النسخة المترجمة والمعربة من كتاب أوغلو حول التحول الحضاري(11). إلا أنه يظل من الضروري التنبيه إلي أن أوغلو في طرحه لهذا المسار لا يقدمه من منظور صراعي، وإنما يري أن البرنامج السياسي الجديد للعالم الإسلامي ينبغي أن يحظي بتأييد كافة الأطراف، لأن مثل هذا الازدهار الحضاري لن يقدم فقط حلولا لمشكلات العالم الإسلامي، بل هو قادر علي إيجاد بديل ملائم لإخراج الإنسانية جميعا من محنتها الناجمة عن هيمنة النموذج المادي الغربي بسلبياته.

وعلي الرغم من أهمية هذا المدخل في تحليل فكر أوغلو، وتميزه عن المدخل الرسمي بإيلاء درجة أكبر من الاهتمام لأفكار أوغلو السابقة علي توليه مناصبه الرسمية، إلا أن مدخل المشروع الحضاري المتكامل لا يخلو بدوره من بعض الانتقادات والتحفظات، لاسيما فيما يتعلق بمدي دقة بعض المفاهيم التي يطرحها في التعبير عن أفكار أوغلو، وفي مقدمتها مفهوم 'العثمانية الجديدة'. فرغم جاذبية مثل هذه المفاهيم (إعلاميا علي الأقل)، ووجود محاولات جادة لبلورتها وتحديد عناصرها، إلا أن استخدامها ترد عليه العديد من التحفظات، نتيجة طابعها الاجتهادي، والتعدد الذي يصل إلي حد التناقض في تعريفها، وعدم استخدامها بوضوح (بل وإنكارها أحيانا) من قبل أوغلو وصناع القرار الرسميين، فضلا عما تستدعيه من قيم وتحيزات تصب أحيانا في إطار التبشير بالدور التركي، أو التخويف منه بمعزل عن التقييم الموضوعي له.

وإذا كان الانتقاد السابق يمس بعض عناصر أو مفاهيم مدخل المشروع المتكامل، دون المساس بالافتراضات الأساسية له، فإن ثمة انتقادات أخري موجهة ضد جوهر هذا المدخل، وتحديدا تحيزه لصالح تأكيد التكامل والاتساق بين نظريات أوغلو وكتاباته المختلفة علي نحو يؤدي إلي تجاهل ما يظهر بين نظريات أوغلو من فروق وتباينات، وهو ما يحاول المدخل الثالث معالجته.

ثالثا- التطور الفكري لأوغلو :

في مواجهة الانتقادات التي يثيرها المدخلان السابقان، يبرز مدخل ثالث يتعامل مع كتابات أوغلو وأفكاره كمراحل مختلفة تعبر عن الانتقال من مشروع فكري إلي آخر، وذلك علي نحو متدرج ينتقل تدريجيا من المثالية والتركيز علي الأبعاد الفلسفية الفكرية والقيمية الحضارية إلي درجة أعلي من الواقعية والبراجماتية، والتركيز علي الأبعاد المادية كمحركات أساسية للتفاعلات الدولية، وتنتقل فيه وحدة التحليل والفاعلين موضع التركيز من التحليل علي مستوي الأمة/الحضارة إلي التحليل من منظور مركزية تركيا كدولة ذات مصالح وطنية.

وفي هذا الإطار، تكشف مراجعة الكتابات الرئيسية المتاحة لأحمد داود أوغلو منذ التسعينيات عن إمكانية التمييز بين ثلاث مراحل تعكس علي الترتيب ثلاثة مشروعات أو وجوه لأوغلو كمفكر إسلامي، وكمفكر جيواستراتيجي، وكمسئول سياسي.

المرحلة الأولي جاءت متزامنة في المسيرة الذاتية لأوغلو مع إعداده -خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي- لرسالة الدكتوراه الخاصة به حول 'المنظورات البديلة'، والتي صاحبتها قراءات معمقة في الدراسات الإسلامية ومقارنتها بالفكر السياسي والفلسفات الغربية، وهو التكوين الأكاديمي والمعرفي الذي تعزز مع قيام أوغلو بالتدريس في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا خلال النصف الأول من التسعينيات(12). وارتبطت هذه المرحلة بنظرية التحول الحضاري التي سبق تناولها، واتسمت بالتركيز علي شئون الأمة الإسلامية وقضاياها، وبناء منظور حضاري في علاقات الأمة وتفاعلاتها. وفي هذا الإطار، تم تأكيد أبعاد الحضارة والهوية في تحديد انتماءات تركيا وخياراتها الخارجية وعلاقاتها مع العالم، وذلك في إطار شديد التشابه في جوهره ومنطلقاته مع الرؤية الإسلامية التقليدية، ومفهوم النظام العادل لدي أربكان. وقد جاءت هذه المرحلة في سياق الاستجابة لمقولات نهاية التاريخ لفوكوياما، حيث رد عليها أوغلو بتأكيد التميز الإسلامي، واستمرار الحيوية الحضارية الإسلامية، وقدرة النموذج الإسلامي علي الصمود وطرح نظام عالمي بديل، وهو ما يعني فعليا تقبل - بل تشجيع - 'النزعة المتنامية للصدام بين الحضارتين الإسلامية والغربية، حيث يمكن أن تتحول إلي حيوية حضارية خصبة'(13).

تأتي بعد ذلك مرحلة انتقالية، تراجعت فيها محورية الأبعاد الحضارية في تفسير أوغلو لدوافع تحركات الولايات المتحدة والقوي الكبري في النظام الدولي، لصالح التركيز علي الأبعاد الجيواستراتيجية، وهو ما ظهر في رد أوغلو علي مقولات صدام الحضارات التي طرحها هنتنجتون، حيث أكد أن ما يحدث في العالم هو 'صدام مصالح' بين القوي الكبري المهيمنة علي الساحة الدولية، وإساءة توظيف للأبعاد الحضارية لتحقيق أهداف براجماتية آنية. فوفقا لأوغلو، فإن مقولة 'صدام الحضارات' إنما جاءت استكمالا لمقولة فوكوياما حول'نهاية التاريخ'، لإضفاء طابع من الشرعية الزائفة علي السياسات 'الواقعية' الساعية للهيمنة من قبل القوي الرئيسية في النظام الدولي. فانتقاد المقومات الحضارية للعالم الإسلامي، وتصوير تدخلات الغرب في شئونه بأنها تتم من منطلق نشر الديمقراطية أو الدفاع ومواجهة التهديد الذي تمثله الدول والكيانات الإسلامية الميالة إلي الصدام مع الغرب، إنما هي واجهات تخفي خلفها حقيقة وقوع النسبة الكبري من المراكز الجيواستراتيجية الأساسية في نطاق الجغرافيا الإسلامية، وثراء هذا النطاق بمصادر الطاقة وغيرها من الموارد الاقتصادية. أي أن المصادر الأساسية لعدم الاستقرار السياسي في العلاقات الدولية المعاصرة هي الاعتبارات الجيوسياسية، واعتبارات الاقتصاد السياسي الدولي، وليست الاعتبارات القيمية/الحضارية(14).

وبالإضافة إلي ماسبق، يظهر التراجع النسبي للمنظور القيمي الحضاري في تحليلات أوغلو لصالح المنظور الجيواستراتيجي في كثرة الاستشهادات بكتابات بيسمارك وماكيندر وسبايكمان وغيرهم من أعلام الكتابات الجيواسترتيجية، وهي كتابات لا ترد إطلاقا في تحليله للنظام العالمي في كتابه 'التحول الحضاري'. ولا ينفي ذلك وعي أوغلو بتأثيرات الترويج لمقولات صدام الحضارات، وسلبيات الحضارة الإسلامية في خلق المزيد من المصادر للصراع الدولي، وزيادة التحيزات ضد المسلمين في الدول الغربية، وضد الدول الإسلامية، بما يعزز حالة العداء المتبادل والتطرف لدي الجانبين، علي نحو ما ظهر بوضوح خلال التسعينيات(15).

هذا الجمع بين العناصر المادية والمعنوية القيمية (مع تغليب الأولي علي الثانية) هو الذي شكل مقدمة للمرحلة الثانية الأساسية في فكر أوغلو، والتي يؤرخ لها بكتابه الأشهر 'العمق الاستراتيجي .. مكانة تركيا الدولية' الذي قام بإعداده خلال السنوات الأخيرة من العقد الأخير من القرن الماضي، وصدرت طبعته الأولي في 1002. وقد تزامنت هذه المرحلة مع عودة أوغلو إلي تركيا، وقيامه بالتدريس في العديد من الجامعات والمؤسسات، مثل جامعتي بيكنت ومرمرة، ومعهد الدراسات الشرق أوسطية، فضلا عن عمله كأستاذ زائر في الأكاديميات العسكرية والحربية التركية، وتأسيسه مركزا للدراسات الاستراتيجية باسم 'علم وصنعت'، وهو ما وفر لأوغلو -بدرجة أو أخري- قنوات للاتصال بعناصر النخبة السياسية التركية بمختلف أطيافها. كما شهدت هذه المرحلة أيضا صعود وسقوط تجربة أربكان وحزب الرفاه في الحكم، والتي كشفت عن العديد من الصعوبات في تطبيق برنامج الحزب وأفكاره (حول النظام العادل) أو حتي ضمان استمرار الحزب نفسه في السلطة(16). وقد أعاد أوغلو في هذه المرحلة بناء تحليلاته بالتركيز علي الأبعاد الجيوسياسية، دون إغفال للأبعاد التاريخية الثقافية. واتسمت هذه المرحلة بتبنيها خطابا جامعا أكثر قدرة علي مخاطبة النخب التركية علي اختلاف توجهاتها، وذلك من خلال تحليل أقل 'قيمية' لخيارات تركية الخارجية، وأكثر تركيزا علي المصالح الوطنية التركية في دوائر حركتها الإقليمية المختلفة، والانتقال من التركيز علي تمايز النموذج الحضاري الإسلامي إلي تأكيد التميز الجغرافي - التاريخي التركي، والذي تشكل الخبرة الإسلامية مجرد جزء منه.

فمن الناحية الجغرافية، تحتل تركيا موقعا فريدا، بوصفها دولة كبيرة تقع وسط إقليم' أفروأوراسيا، بما يجعلها دولة مركزية ذات هويات إقليمية متعددة غير قابلة للاختزال أو الحصار في هوية أو منطقة واحدة، شأنها في ذلك شأن روسيا وألمانيا وإيران ومصر. ويمنح هذا التكوين الإقليمي المتعدد تركيا القدرة علي المناورة والحركة في أكثر من إقليم بشكل متزامن، ويزيد من نطاق تأثيرها ونفوذها. ولا يكتفي أوغلو بتأكيد تميز مكانة تركيا كدولة مركزية، مقارنة بالدول القارية والجزرية والطرفية الهامشية، وإنما يؤكد احتلال تركيا مكانة خاصة، مقارنة بالدول المركزية الأخري، بالنظر إلي أن تركيا هي دولة مركزية في أكثر من إقليم بشكل متزامن. فالمجال البري المقارب لتركيا يحدد مجالات نفوذ تركيا الممكنة في البلقان، والقوقاز، وآسيا الوسطي. بينما يسمح المجال البحري لها بممارسة النفوذ في شرق المتوسط، والقوقاز، والبحر الأسود، والخليج الفارسي، أو خليج البصرة، كامتدادات طبيعية للنطاق البحري لتركيا. كما يسمح مفهوم المجالات أو الأحواض القارية بمنح تركيا عمقا استراتيجيا في آسيا، وإمكانات للتأثير في أوروبا وآسيا، وهو ما يطلق عليه أوغلو 'أفروأوراسيا '. فتركيا تتمتع برؤية أكثر اتساعا وعالمية بحكم موقعها المثالي الذي يجعلها دولة آسيوية وأوروبية في الآن ذاته، مع قربها من إفريقيا عبر شرق المتوسط. وتتسم تركيا كذلك بالعمق التاريخي بوصفها كانت في مركز الأحداث التاريخية، سواء في المرحلة البيزنطية أو العثمانية(17).

ويترتب علي هذه الرؤية لمكانة تركيا كدولة مركز زيادة كبيرة في هوياتها ودوائر تحركها. ويؤكد أوغلو ذلك بشكل شديد التوسع أحيانا، حتي إنه يعتبر تركيا - بحكم عمقها الجغرافي- دولة 'جارة لإفريقيا'، و'دولة خليجية بسبب اتصالها بالخليج عبر العراق'، بالإضافة إلي هوياتها الأخري كدولة آسيوية، وأوروبية، ومتوسطية، وبلقانية، وشرق أوسطية قوقازية تنتمي إلي آسيا الوسطي. ويتناول كتاب العمق الاستراتيجي تفصيليا طبيعة معظم هذه الدوائر، والخطوط الاستراتيجية الأساسية فيها، وتحليل الواقع التاريخي والراهن للسياسات التركية في كل منها، ومقترحات وتوجيهات لتقويم هذه السياسات، استرشادا بالمعايير الجيوسياسية أولا، وتحليل طبيعة استراتيجيات الأطراف والقوي المختلفة الإقليمية والدولية ثانيا، جنبا إلي جنب مع الأبعاد والمحددات التاريخية والثقافية، مع تجنب واضح لاستخدام المفاهيم والمفردات اللصيقة بالمنظور الإسلامي(18).

وإذا كانت هذه المرحلة قد اتسمت بغلبة التحليل من المنظور الجيوسياسي ومركزية الذات التركية، فإن المرحلة الثالثة جاءت لتمثل أفكار أوغلو بعد توليه منصبه الرسمي منذ عهد حكومة العدالة والتنمية الأولي، وهي النقلة التي يعتبرها أوغلو تتضمن 'ثنائيتين حاكمتين في تجربته الشخصية، هما: ثنائية النظرية -التطبيق التي ظهرت مع انتقاله من بروفيسور جامعي في العلوم السياسية إلي مستشار رئيس الوزراء، وثنائية المثالية- الواقع في إدارة العلاقات الدولية، والتي فرضت نفسها بعد تسلمه لمهامه كوزير للخارجية وهو في الخمسين من عمره(19). واتسم خطاب أوغلو في هذه المرحلة الرسمية بمحاولة تخفيف مركزية التحليل من منظور المصالح التركية، وإضفاء طابع أكثر توفيقية دبلوماسية علي تحليل الأفكار المكونة لرؤية تركيا لمكانتها وأدوارها، بحيث تتم المرادفة بين هذه المصالح الوطنية التركية من جهة، والمصالح الإقليمية والعالمية من جهة أخري.

ورغم أن المباديء المطروحة في المرحلة الثالثة تتسم بطابع من البساطة والجاذبية، إلا أن الكثير منها يمكن اعتباره بمثابة صيغ مخففة من مقولات العمق الاستراتيجي، مغلفة بمسميات ومفاهيم جديدة تتسم بالجاذبية (وذلك علي النحو السابق توضيحه عند عرض المدخل الأول). ويمكن الإشارة في هذا السياق إلي مبدأ رفض سياسات الحصار والعزل، وأهمية الحوار والدبلوماسية الذي يجد جذوره في مفهوم 'المثلثات الاستراتيجية' الذي طرحه أوغلو في كتاب العمق الاستراتيجي حول كيفية تعزيز المصالح التركية، وزيادة استقرار المنطقة واستقلاليتها عن التدخل الخارجي. حيث يري أوغلو أنه يمكن لمثلثين متداخلين أن يحددا طبيعة التوازن الدولي في الشرق الأوسط، ومدي مناعته في مواجهة الضغوط الخارجية، وهما: المثلث 'الخارجي' المصري - التركي - الإيراني، والمثلث 'الداخلي' السوري - العراقي - السعودي. ومادام المثلث الخارجي متوازنا، فإن الشرق الأوسط سيحافظ علي حالة اتزانه. ويشير أوغلو إلي أن إحدي الدول الثلاث في المثلث الخارجي عادة ما تعزل أو تقصي، بينما تدعم الاثنتان الأخريان. وفي الوقت الراهن، تقوم السياسة الأمريكية علي دعم القومية العربية للحفاظ علي توازن المثلث الداخلي، والحد من المعارضة الإسلامية، وتحويل الصراع الأساسي للشعوب في الدول العربية نحو السعي لتأمين احتياجاتهم المعيشية الأساسية، بدلا من الصدام مع القيادات السياسية لدولهم(20). ويؤكد أوغلو أهمية التزام تركيا ب- 'المرونة الدبلوماسية'، وتجنب الاستمرار في مواقف مواجهة دائمة مع أقطاب مزدوجة في بني التوازن الثلاثي في المنطقة (تركيا - إيران - العراق - تركيا - سوريا - مصر)، لأنه لا يمكن لأي تفوق عسكري يفتقد البنية التحتية من المرونة الدبلوماسية أن يحقق النصر الدائم في الشرق الأوسط، وهو ما أظهرته تجربة العراق في حربه ضد إيران ثم الكويت(21).

خاتمة :

تتسم الأفكار التي يقدمها أوغلو بالأصالة والعمق الفلسفي والتاريخي من ناحية، والشمول والقدرة علي طرح رؤية مستقبلية من ناحية أخري، وهو ما يجعل كتاباته تتسم بطابع خاص باعتبارها مزيجا من الكتابة الأكاديمية، والكتابة البرنامجية المرنة في آن واحد. وقد حاول المقال التعرض بإيجاز لطبيعة هذه الرؤية (أو الرؤي) من خلال المزج بين القراءة المباشرة لأفكار أوغلو من ناحية، والاجتهادات المتعددة المطروحة في قراءة هذه الأفكار من ناحية أخري، وذلك عبر ثلاثة مداخل، أولها: المدخل الرسمي الذي يقتصر بالأساس علي المباديء المعلنة من قبل أوغلو كمسئول سياسي، وثانيها: مدخل المشروع الحضاري الذي يقدم صورة أوغلو كمفكر إسلامي، وثالثها: مدخل المراحل أو المستويات الفكرية. ويتميز المدخل الأخير بأنه أكثر اتساعا من سابقيه، إذ يشملهما ويضيف إليهما في الآن ذاته، حيث يسمح بدراسة أفكار أوغلو الرسمية، جنبا إلي جنب مع إمكانية التعامل مع المراحل المشار إليها كمستويات مترابطة من مشروع فكري واحد، أو الربط بين بعض هذه المستويات دون بعضها الآخر، فضلا عن طرح احتمال تغير أو حتي تحول أفكار أوغلو من مرحلة إلي أخري، دون تحيز مسبق لطبيعة هذا التغير، وما إذا كان جذريا أم تكتيكيا مرحليا. إلا أن نقطة ضعف هذا المدخل تكمن في عجزه عن حسم إشكالية حقيقة العلاقة بين المراحل المذكورة، أو تفسير ما بينها من تباينات، وهي الإشكالية التي تكاد تناظر تلك المطروحة في الجدالات الخاصة بتحليل هوية حزب العدالة والتنمية، وطبيعة رؤيته، ومستقبل تجربته.

------------------
* مدرس مساعد في قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد و العلوم السياسية، جامعة القاهرة.

الهوامش :

1- تنتمي غالبية الكتابات والتحليلات المطروحة لفكر أوغلو لهذا المدخل. انظر علي سبيل المثال: محمد نور الدين، استراتيجية تركية جديدة، شئون الأوسط، العدد 141، خريف 2004، ص ص2-4 . وكذلك: علي، محمود عبده، 'داود أوغلو .. مفكر استراتيجي برتبة وزير خارجية، موقع إسلام أون لاين نت، 2 مايو 2009، من: www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1239888568085 . وانظر أيضا:

- Ibrahimoglu،Lale Sari،'Davutoglu Promoting 'Strategic Depth' in Turkish Foreign Policy'، Eurasia Daily Monitor(EDM)، 6(89)، 8th of May 2009، at: http://www.turkishdigest.com/05/2009/davutoglu-promoting-strategic-depth-in.html; And: Uslu،Emurallah،'Ahmet Davutoglu:The Man behind Turkey's Assertive foreign policy'،Eurasia Daily Monitor(EDM)،6(57)، 25th of March 2009، ، Retrieved from: http://www.jamestown.org/single/?no_cache=1&tx_ttnews%5Btt_news%5D=.34754

2- Davutoglu ،Ahmet،'Turkey's foreign policy vision: an assessment of 2007'، Insight Turkey، 10(1)، January - March 2008، pp. 77-.79

3- Ibid،84-85; And: 'Interview-Turkey's Top Foreign Policy Aide Worries about False Optimism in Iraq'، the website of the Council on Foreign Relations (CFR)، 19th of September 2008، Retrieved from: http://www.cfr.org/publication/17291/turkeys_top_foreign_policy_aide_worries_ about_false_optimism_in_iraq.html.

4- لمزيد من التفاصيل والنماذج لإعادة أوغلو ترتيب هذه المباديء، انظر: محمد السعيد إدريس، تركيا وإيران ونظرية 'البيوت الخشبية'، مختارات إيرانية، السنة 8، العدد 110، سبتمبر2009، ص ص4-5 . وكذلك: علي جلال عبدالله معوض، الدور الإقليمي لتركيا في منطقة الشرق الأوسط 2002-2007، رسالة ماجستير، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2009، ص ص353-453.

5- Ibrahimoglu، loc. cit.

6- إبراهيم البيومي غانم، أحمد داود أوغلو وليس 'كيسنجر تركيا'، موقع إسلام أون لاين نت، 6 مايو 2009، من:

http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1239888695031&pagename=Zone-Arabic-News%2FNWALayout

7- المصدر نفسه، ولمزيد من التفاصيل حول الأفكار الأصلية لأوغلو حول هذه المرحلة والمراحل السابقة لتطور نظم الحكم في العالم الإسلامي، انظر: أحمد داود أوغلو، العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، ترجمة وتعريب إبراهيم البيومي غانم، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2006) صدر العمل الأصلي في 1994)، ص ص182-491.

8- أحمد داود أوغلو، المرجع السابق، ص ص157-561.

9- إبراهيم البيومي غانم، المرجع السابق.

10- المصدر نفسه، وانظر أيضا: إبراهيم البيومي غانم، الاستراتيجية التركية والعثمانية الجديدة، الأهرام، 7 أكتوبر 2009 . وكذلك: عمر تشبينار، سياسات تركيا في الشرق الأوسط .. بين الكمالية والعثمانية الجديدة، سلسلة أوراق كارنيجي، العدد 10، واشنطن: مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، 2008، ص ص17-81.

11- أحمد داود أوغلو، مرجع سابق، ص ص193-491.

12- تم الاعتماد في تناول مراحل السيرة الذاتية لأوغلو في هذا الجزء والأجزاء التالية علي البيانات المذكورة في موقع وزارة الخارجية التركية:

- CV of The Minister، Turkish Ministry of Foreign Affairs Web Site،At: http://www.mfa.gov.tr/ahmet-davutoglu.en.mfa.

13- المصدر نفسه، ص202.

14- Davutoglu ،Ahmet، The Clash of Interests: An Explanation of the World (Dis)Order، Perceptions Journal of International Affairs،2(4)، December1997-February 1998، Electronic Version Retrieved from: http://www.sam.gov.tr/perceptions/Volume2/December1997-February1998/davutoglu.PDF، pp.8-10.

15- Ibid، pp.11-12.

16- لمزيد من التفاصيل حول تجربة حزب الرفاه، انظر: جلال عبد الله معوض، صناعة القرار في تركيا والعلاقات العربية -التركية، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص ص 54-97.

17- Murinson، Alexander، The Strategic Depth Doctrine Of Turkish Foreign Policy،Middle Eastern Studies، 42(6)، November 2006، pp.951-952.

18- أحمد داود أوغلو، تركيا والديناميات الأساسية للشرق الأوسط، ترجمة: غزال يشيل أوغلو، شئون الأوسط، العدد 116، خريف 2004، ص ص31-36.

19- مصطفي اللباد، مفكر تركيا الاستراتيجي: أحمد داود أوغلو، الجريدة (الكويتية)، 11 أبريل 2009، من: www.aljarida.com/AlJarida/Article.aspx?id=105481

20- Yenigun، M. Cuneyt، Ahmet Davuto?lu ]Review of the book Stratejik Derinlik، Trkiye' nin Uluslararasi Konumu (Strategic Depth، Turkey's International Position)[، Review of International Affairs، 2 (2)، 2002، p.122.

21- أحمد داود أوغلو، تركيا والديناميات الأساسية ..، مرجع سابق، ص83.

Comments

Popular posts from this blog

APAKAH TELUR NAJIS

Apakah Telur Najis oleh: Kholil Misbach, Lc Ada pertanyaan dari kawan tentang kenajisan telur hal itu dari artikel yang ia baca dalam sebuah postingan blog, dalam postingan tersebut menyatakan bahwa telur adalah najis karena keluar dari dubur ayam sehingga bercampur dengan kotoran ayam yang najis, barang yang kena najis adalah najis pula maka wajib membasuh telur sebelum digunakan. Aku ingin berusaha menjawab pertanyaan tersebut secara fikih dengan menyebutkan dalil-dalil semampunya. Menurut imam Nawawi dalam Kitabnya Al Majmu' Sebagai berikut: ( فرع) البيض من مأكول اللحم طاهر بالاجماع ومن غيره فيه وجهان كمنيه الاصح الطهارة (Cabang) Telur dari binatang yang dimakan dagingnya adalah suci secara ijmak. Adapun telur yang keluar dari binatang yang tidak dimakan dagingnya ada dua pendapat sebagaimana khilaf dalam maninya, yang paling shahih adalah suci. Keterangan: Jadi telur binatang yang halal dimakan seperti ayam, bebek, angsa, burung dsb adalah suci dan tidak najis. Berbeda dengan t

Terjemah kitab Fathul Wahhab karya Abu Zakaria Al Anshori

 Kitab Ath Thaharah (Bersuci) Kitab secara bahasa adalah menggabungkan dan mengumpulkan, secara istilah adalah nama dari  berbagai kumpulan khusus dari ilmu yang terdiri dari beberapa bab dan pasal biasanya. Thaharah secara bahasa adalah النظافة والخلوص من الادناس  Bersih dan terbebas dari kotoran-kotoran. adapun menurut Syariat thaharah adalah رفع حدث او ازالة نجس او ما في معناهما وعلى صورتهما "Mengangkat hadats atau menghilangkan najis atau sesuai makna keduanya atau sesuai gambarannya seperti tayammum dan mandi-mandi sunnah, tajdidul wudlu (memperbarui wudlu) dan basuhan kedua dan ketiga, semuanya termasuk macam-macam bersuci. (Bersambung)

VATIKANPUN AKAN MENJADI MILIK UMAT ISLAM

oleh: Kholil Misbach, Lc Romawi pada masa terdahulu merupakan negara adidaya yang sangat kuat dan kaya, saking besarnya kekuatan Romawi ini sampai ada surat yang menceritakan kisahnya yaitu surat Ar Rum yang berarti bangsa Romawi, walaupun besar, kuat dan adidaya karena tidak beriman kepada Allah dan rasul-Nya Muhammad saw maka negeri inipun akan hancur dan ditaklukkan oleh kaum muslimin. semoga Allah menjadikan kita sebagai penakluknya.  Sebuah berita bahagia bagi kaum muslimin bahwa vatikanpun kelak akan menjadi milik kaum muslimin, dalam sebuah riwayat:  Beliau bersabda “Kota Konstantinopel akan jatuh ke tangan Islam. Pemimpin yang menaklukkannya adalah sebaik-baik pemimpin dan pasukan yang berada di bawah komandonya adalah sebaik-baik pasukan.”  [H.R. Ahmad bin Hanbal Al-Musnad 4/335]. Dari Abu Qubail berkata: Saat kita sedang bersama Abdullah bin Amr bin al-Ash, dia ditanya: Kota manakah yang akan dibuka terlebih dahulu ; Konstantinopel atau Rumiyah?  Abdullah mem